دراسات إسلامية

 

رمضان الشهر الذي فيه نزل القرآن

 

 

بقلم : الأستاذ السيد أحمد أبوالفضل عوض الله / جمهورية مصر العربية

  

 

  

 

 

       القرآن الكريم .. هو كتاب العرب الأكبر، ودستور المسلمين الأعظم، وديوان العالم الأغر، وشرعة الإنسانية السمحة، ووحي السماء الذي نزل به الروح الأمين على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين .

       والقرآن الكريم جاء مشتملاً على حكم ومواعظ وقصص وأحكام، وأعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتحذير وتبشير، وأمر ونهي، وحثٍّ على التمسك بالأخلاق الكريمة، والمثل العليا، والقيم الرفيعة، والآداب العظيمة الحكيمة. وكل ذلك في نهج من البلاغة رائع عجيب، وأسلوب من الفصاحة رائق خصيب، يبهر العقول، ويأسر الأسماع، ويسحر الأفئدة، ويهز المشاعر، ويندى على القلوب بحيث لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .

       ولقد وصف علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – القرآن بقوله: «فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، وهو الذي لايبلى من كثرة الترداد، وهو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إنَّا سَمِعْنَا قرآناً عَجَبًا * يَهْدِيْ إلىٰ الرُّشْدِ فَآمنَّا بِه ولَن نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحدا﴾ الجن: الآيتان 2،1. فمن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا به هُدى إلى صراط مستقيم».

*  *  *

كيف نزل القرآن ..؟

       اتفق أئمة الدين وجميع المسلمين السابقين واللاحقين، على أن القرآن نزل منجمًا مفرقًا. بحسب الوقائع وما تقتضيه الأحوال وحكم التنزيل ودواعيه، وقد تم تنزيله على النبي في نحو اثنين وعشرين حجة منها: سبع عشرة بالمدينة، وخمس بمكة .

       ولكن الأئمة قد اختلفوا في معنى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْه القرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدٰى وَالفُرْقَانِ﴾ البقرة: آية 185، وقوله تعالى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِيْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ القدر: الآيتان:2،1. فقال الجمهرة منهم إنه أُنزِلَ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة، ثم نُجِّم بعد ذلك على حسب الوقائع عند تنزيله من سماء الدنيا: ومن أصحاب هذا الرأى ابن عباس. وقال آخرون – وهم الأقلية : إنه أُنزل إلى سماء الدنيا على مدى أعوام نزوله على النبي بحيث كان ينزل في شهر رمضان من كل عام ما تقتضيه الوقائع، ثم يُنجِّم بعد ذلك طبقًا للأحوال، وما تستلزمه الأسباب والظروف: ومن أصحاب هذا الرأي العلامة فخر الدين الرازي .

       ويذهب بعض المفسرين – ولا سيما المحدثين – إلى أن تنجيمه كان يأتي لحينه تباعًا على حسب الأحوال التي تقتضي نزول الآيات، وأن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان، أو في ليلة القدر، إنما هو البدء في تنزيله على النبي ويصح إطلاق القرآن على بعضه، ووحي السماء إذا بدأ فلابد أن يتم، ومن أصحاب هذا الرأى الشعبي.. ونحن نميل إلى هذا الرأي .

       وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي بالقرآن مرة في رمضان من كل عام.

       وأول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى : ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَاْنَ مِنْ عَلَقَ * اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَاْنَ مَاْلَمْ يَعْلَمْ﴾ العلق: الآيات 1-5، وآخر ما نزل عليه بمكة: ﴿وَيْلُ لِّلْمُطَفِّفِيْنَ * الَّذِيْنَ إذَاْ اكْتَاْلُوْا عَلىٰ النَّاْسِ يَسْتَوْفُوْنَ * وَإِذَا كَاْلُوْهُمْ أَوْ وَزَنُوْهُمْ يُخْسِرُوْنَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلـٰـئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوْثـُوْنَ * لِيُوْمٍ عَظِيْمٍ * يَوْمَ يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ﴾ المطففين: الآيات 1-6. لأن أهل مكة كانوا أشد العرب تطفيفًا وإقساطاً للكيل والميزان ، وآخر ما نزل عليه بالمدينة المنورة قوله تعالى: ﴿اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنًا﴾ المائدة: آية 3، وقد نزلت هذه الآية على النبي بعرفة في حجة الوداع، وما سبق هو أشهر الأقوال في أول وآخر ما نزل من القرآن ، ولبعض الأئمة في ذلك آراء أخرى ذكرها صاحب كتاب (التبيان) وغيره من العلماء، وأصغر نجوم القرآن آية، وأكبرها سورة ليست من السور الطوال، وهي سورة الفتح .

*  *  *

أسباب و دواعي النزول

       أما فيما يتعلق بدواعي النزول: فإنها كانت تأتي طبقًا لما ترشد إليه الآيات من أحوال .

       ويمكن حصر هذه الأحوال في ثلاثة أصول:

·         الدعوة إلى الوحدانية والجدل عنها .

·         ذكر العظات والعبر والوعد والوعيد .

·    تفصيل الأوامر والنواهي، وتوضيح الشرائع لتنظيم أحوال المجتمع في العبادات والمعاملات والأخلاق، وآيات الدعوة والوحدانية، والحجاج عنها، والمجادلة فيها؛ كانت تنزل بحسب أحوال المدعوين؛ فعند مخاطبة كفار قريش كانت الآيات تجئ بما يناسب حالهم، وعند توجيه الخطاب إلى اليهود أو النصارى يكون الخطاب لكل فريق منهما بما يناسبه، فحالهما غير حال المشركين من قريش، ولكل مقام مقال .

       - أما الآيات المشتملة على عظات وعبر وما شاكل ذلك: فكانت تنزل بحسب أحوال المخاطبين وماهم عليه من عناد ومكابرة، تقتضي تخويفًا وتهديدًا ووعيدًا وعقاباً، مع ذكر ما أعد الله للمؤمنين في جنته من النعيم المقيم، والفوز العظيم، وكانت آيات القصص المجملة أو المفصلة تنزل بحسب أحوال الرسول وأحوال المؤمنين والمعاندين، فيكون فيها تثبيت لقلب الرسول وقلوب المؤمنين، وحمله – عليه الصلاة والسلام – وحمل المسلمين على التأسي بالنبيين ومن اتبعوهم من المتقين ، وبعض القصص كانت تنزل إجابة عن سؤال يسأله سائل من الكافرين .

       - وأما الآيات الخاصة بالتشريع، وتقرير الأوامر والنواهي: فكانت تنزل على الرسول في غالب الأحوال – لتوضيح فريضة، أو بيان حكم شرعي في المعاملات، أو استجابة لما تقتضيه الحوادث التي كانت تجري في المجتمع الإسلامي، وتعرف هذه الحوادث بأسباب النزول، وقد عُني كثير من المفسرين بتوضيحها والإشارة إليها .

        ومن أمثلة أسباب النزول: أن رسول الله أرسل «مرثد الغنوى»؛ ليخرج بعض المستضعفين من مكة، فعُرِضَتْ له امرأة مشركة ذات جمال ومال، فعفّ عنها، فدعته إلى الزواج منها ، فقبل شريطة أن يستأذن رسول الله في ذلك. ثم قدم على النبي وطلب منه أن يأذن له بزواجها، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلاَتَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاْتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ البقرة: آية 221.

       وكذلك وردت آيات هي أجوبة عن أسئلة توجه المؤمنون بها إلى الرسول مثل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْخَمَرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ البقرة: آية 219، ومثل : ﴿وَيَسْأَلُوْنَكَ مَاذَاْ يُنْفِقُوْنَ﴾ البقرة: آية 219، ومثل : ﴿وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْيَتَامـٰـى﴾ البقرة: آية 220، ومثل : ﴿وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَاْلٍ فِيْهِ﴾ البقرة: آية 217، ومثل : ﴿يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيْكُمْ﴾ النساء: آية 176 .

*  *  *

الحكمة من نزول القرآن مُفَرَّقًا

       يمكن إرجاع الحكمة من تنزل القرآن مفرقًا أو منجمًا إلى الأسباب الآتية :

·   قد اقتضت بواعثه وأسبابه هذا التنجيم والتفريق؛ لأنه أُنْزِلَ على الرسول بحسب الأحوال والظروف، وبما أن الأحوال تتتابع والظروف، تتلاحق، وكلها لا توجد دفعة واحدة، فقد اقتضى ذلك أن يكون التنزيل منجمًا ومفرقًا طبقًا لهذه الحالات المتجددة المتعاقبة تعاقب الليل والنهار، على هذا المجتمع البشري .

·    في نزول القرآن مفرقًا مع تحدي الكافرين بكل نجم منه ، وظهور عجزهم عن معارضته أو الإتيان بمثله ما يدعو إلى تثبيت قلب الرسول في موقفه، وزيادة قوته، وشدّ أزره أمام معارضيه، وفي ذلك بطبيعة الحال انهيار لحجج الكافرين، وإزلال لعقولهم الملحدة، وإضعاف لقوتهم الطاغية.

·    يضاف إلى ذلك أيضا أن في تنزيله منجمًا تمكينًا للنبي الأمي من حفظه وتثبته منه، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاْحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤَاْدَكَ وَرَتَّلْنَاْهُ تَرْتِيْلاً﴾ .

·    كان العرب أميين لايقرؤون ولا يكتبون، فجاءهم القرآن منجمًا على حسب مقتضيات الأحوال. ليكون لهم من ذلك خير عون على تلقيه وحسن الفهم لمعانيه، ولو جاءهم القرآن جملة واحدة لتهيبّوه، وليئسوا من استظهاره وإدراك مقاصده وأسراره، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاْهُ لِتَقْرَأَه عَلىٰ النَّاْسِ عَلىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيْلاً﴾ .

·    اتخذ العرب في الجاهلية هواهم دينهم، وجعلوا من عاداتهم قانونًا لهم، فلو جاءهم القرآن جملة واحدة لوجب عليهم أن يلتزموا حدود أوامره وونواهيه، وأن يستجيبوا فجاءة وقسرًا لما جاء فيه، فيجتنبوا دفعة واحدة ما ألفوه، وألزمهم أن يتمرسوا بما لم يعتادوه، دون تدرج في مراحل التطبيق والعمل؛ فيكون ذلك مدعاة لنفورهم من طور إلى طور، بدون مراعاة لطبيعتها والعروج بها في معارج التدرج إلى جماحها ونفورها؛ فمن أجل التخفيف على العرب فيما يؤمرون به ويُنْهَوْنَ عنه، أنزله الله منجمًا ومفرقًا تمشيًا مع طبائع النفوس الإنسانية حتى يسهل عليهم أن يعملوا بتكاليفه، وأن يستجيبوا – عن غير عنت – إلى أوامره ونواهيه، في تلاحق وتتابع، فترة بعد فترة، وفي توضيح هذا المفهوم قالت السيدة عائشة – رضي الله عنها - : «إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: «لاتشربوا الخمر» لقالوا: لاندع الخمر أبدًا، ولو نزل «لاتزنوا» لقالوا: لاندع الزنى أبدًا».

·    من القرآن ماهو ناسخ ومنسوخ لحكمة.. يعلمها الشارع الحكيم، ومنه ماهو جواب عن سؤال، ومنه ماهو إنكار لقول أو فعل. ومثل هذا التنوبع يقتضي نزول القرآن منجمًا على حسب ما تقتضيه أسباب النزول وقرائن الأحوال؛ وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَأْتُوْنَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيْرًا﴾ الفرقان: آية 33.

       ولم يكن تتابع سور القرآن وآياته في نزولها على النبي طبقًا لما هو عليه من الترتيب الوارد في المصاحف؛ بل كانت الآيات تجيء على حسب أسباب النزول ومقتضياته؛ فكان النبي يأمر بوضعها في مواضعها المناسبة لها من السور، ومع ما يلائمها من الآيات التي تسبقها أو تلحقها .

       قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو من كتاب الوحي: «كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدة آيات، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». والذي عليه المسلمون جميعًا أن ترتيب الآيات في السور على هذا النحو الذي أمر به النبي إنما كان بتوقيف من الروح الأمين عن أمر ربه، وكان جبريل عليه السلام يعارضه بما نزل من القرآن في رمضان من كل عام. وفي العام الذي تُوُفِّيَ فيه عارضه به جميعًا مرتين، قال تعالى: ﴿إِنَّاْ عَلَيْنَا جَمْعَه وَقُرْآنَهْ﴾ القيامة: آية 17.

       والسورة: لغة هي المنزلة الرفيعة والشرف والعزة .. قال النابغة يمدح النعمان :

ألم تـــر أن الله أعطاك ســـــورةً

ترى كل ملك دونها يتذبذب

       والسورة من القرآن هي المقدار المستقل من قطعه المشتملة على عدة آيات. ولكل سورة من القرآن اسم خاص بها. والسورة إما أن تكون مسماة بأول كلمة فيها مثل سورة: يـٰـس، طـٰـه، والصافات، وص، والفجر، والضحى، والشمس، والعصر.. الخ. وإما أن تكون مسماة باسم شيء أو لفظ له ذكر وارد في أثناء السورة بعد أوائل آياتها. مثل سورة: البقرة، وآل عمران، والنساء، والنحل، والكهف، ومريم، ومحمد، وإبراهيم.. إلخ. وإما أن تكون مسماة بمعنى خاص ملحوظ فيها، من غير أن يكون له ملفوظ مذكور في آياتها، مثل سورة: الفاتحة، فقد سميت بذلك؛ لأنها أول الكتاب وفاتحته، وسورة الإخلاص: فإنها في جملتها داعية إلى الإخلاص لله وحده ولا شريك له، وليست في القرآن غير هاتين السورتين.

       وعدد سورة القرآن 114 سورة .

       وعدد آياته 6236 آية ، عدا البسملة في أول كل سورة إلا سورة التوبة .

       وعدد حروفه 325345 حرفًا، ومما يُلاَحَظُ أن ترتيب السور الطوال في القرآن في أوله، والقصار في آخره، ما عدا الفاتحة فهي سورة قصيرة؛ ولكنها هي بداية الكتاب وفاتحته وأول سورة، ومن الفروق الواضحة بين طوال السور وقصارها، اطراد تواطؤ الفاصلة الواحدة في السور القصيرة، مع قصر آيها، وهذاغير مطرد في السور الطويلة .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.